سجين الطوامير والصمت البليغ
حيدر الجراح
شبكة النبأ: هو كاظم الغيظ، والغيظ هو الغضب الشديد، ولا يتفجر الغضب لدى الغاضبين عادة الا عنفا في الجوارح، يدا او لسانا (و يأتي أنه كان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير و كانت صراره مثلا).
وهو باب الحوائج، ولا تقضى حوائج الناس الا بالسعي الدؤوب فيها، وهو سعي مداه الاقصى الانفاق، ولا يقترن الانفاق الا بالصمت، فلا تعلم اليد اليمنى ما تنفق اليسرى، والعكس صحيح ايضا.
وهو راهب آل محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لكنها ليست الرهبانية المنهي عنها في الحديث الشريف (لا رهبانية في الاسلام) بل هي رهبانية العبادة التي تقتضي الصمت، والصمت احد المتطلبات الرئيسية للعبادة، سجودا للخالق او مناجاة له، مناجاة الضمائر قبل الالسن.
والصمت اية اعجاز وصوم، كما في قصة زكريا ومريم ام المسيح عليهما السلام.. في الاولى:
قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) مريم (10) وفي الثانية: قوله تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) مريم (26).
قال المفيد في الإرشاد: كان موسى بن جعفر عليه السلام أجل ولد أبي عبد الله قدرا و أعظمهم محلا و أبعدهم في الناس صيتا و لم ير في زمانه أسخى منه و لا أكرم نفسا و عشرة و كان أعبد أهل زمانه و أورعهم و أجلهم و أفقههم.
ثم قال: كان أبو الحسن موسى أعبد أهل زمانه و أزهدهم و أفقههم و أسخاهم كفا وأكرمهم نفسا وروي أنه كان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح ثم يعقب حتى تطلع الشمس وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع و كان أوصل الناس لأهله و رحمه و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزبيل فيه العين و الورق و الأدقة و التمور فيوصل إليهم ذلك و لا يعلمون من أي جهة هو.
والصمت تأمل، يسكت فيه اللسان عن الكلام المباح، وتشتغل خلايا العقل، دون حتى هسيس يصدر من الشفاه.. كما كانت عادة خاتم الانبياء قبل بعثته في غار حراء.. والصمت طاقة متواصلة للتفكير دون صخب الكلمات والحروف.
السجون تتشابه جدرانها، واذا اريد التضييق على سجين، حبسوه في زنزانة انفرادية لا تسمح له بالاختلاط بالآخرين.. والاختلاط تواصل، والتواصل لغة محكية، عبارات وكلمات تؤلف جملا للتعبير عما يريده السجين.
والسجن طوامير تحت الارض، في ازمنة القهر الذي مارسه طغاة الحكم العضوض، والصمت كان احب الى (السجين – سجان ساجنيه) خلف اسوار شهواتهم ورغباتهم وسلطانهم.. وهو سجن احب الى (الراهب – الخاشع) ساعات يومه، نهاره وليله.. وهي فسحة اخرى للنجو بين العبد وخالقه، في دعاء هو اقرب الى التمتمات منه الى الكلمات التي يمكن سماعها، وهو صلاة متواصلة، ربما تستغرق سجدة واحدة منها، ليل السجان بأكمله.. لكنه ليل قصير على المناجي وطويل على الاخر في قصره.
اكثر ما يقتل السجان، سجين صامت، وما يعذبه اكثر في الصمت، صبر على الاذى وعدم الشكوى، والسجان في لعبة كسر الارادات، يريد للسجين ان يساوم، على صمته وعلى ضوء الشمس، لكن الكلام هنا في طوامير الطغاة اقرب الى الاثم، والمساومة اقرب الى الكفر.
ثم على ماذا يساوم؟ والدنيا محض اقامة عابرة تنقضي سنواتها وايامها وحلوها ومرها، وكانها ما كانت غير لحظة عابرة في حساب حياة اخرى يطمح اليها من لا يساوم او يركع لغير الله سبحانه، خالق السجان والسجين.
والدنيا هي نفسها التي طلقها بالثلاث جده الوصي، لكنه ما بارحها الا وسيرته تملأ الخافقين في مشارق الارض ومغاربها.. وهي سيرة ما كان فيها يوما شيء من مساومة على مبدأ او حق، سواء لاجل اخيه مسلم بن عقيل او غريمه اللدود معاوية بن ابي سفيان..
فالمبدأ واحد عند العظماء، لا يمكن له ان يتجزأ او يرتدي مسوحا واشكالا اخرى.. هي الدنيا نفسها، وسجن الجسد للارواح العاشقة لمعبودها امض واقسى من سجون الطغاة.
لم يكن سجن الامام الكاظم عليه السلام، ضيقا عليه، فهو لم يكن وحده فيه، ولم تكن جدرانه بقادرة على ان تسجن تلك الروح العاشقة لمعبودها، والمعبود هو الله، وهو حسبه.. الم يكن نقش خاتمه عليه السلام (حسبي الله)؟
شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/حزيران/2013 - 25/رجب/1434