سليم بركات لا يكتب للأغبياء ولا يحترمهم... ثمّة من يفعل ذلك!
جعفر الجمري
جعفر الجمري ... -
jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com
في رواية «السلالم الرمليَّة» للسوري - الكردي سليم بركات، يَرِد في أحد فصول الرواية: «البارحةُ خطأُ اليوم». في الغلاف الأخير للرواية نفسها يَرِد: «قويٌّ كظلام، كخيانة، كجوع، كيأس، كبياض، كقبر، كوحْدة، كخيال لا يعثر على كلمات».
كلامٌ فيه من مساحة الشعري ما لا يألفه الذين يعانون من انعدام الحواس في أبسط حق وتفاصيل في حياته؛ باعتباره إنساناً. أعلم أن الانشغال والالتفات لأعمال بذلك العمق من النحْت في اللغة واستجلاء وتجاوز الخيال، وتأثيث المستحيل قبل الممكن؛ يعدُّ ضرباً من الإسراف واللهو، في أمكنة يُصادر فيها كل شيء حق. حقّ الإنسان في أن يتجاوز البسيط من واقعه؛ عدا الحديث عن خياله ونبوءاته وقدرته على اجتراح المعجز والمختلف والمدهش.
هرستْنا السياسة. دفعنا السياسيون الذين نعاصر إلى الوصول إلى قناعة أنهم وجدوا في الحياة كي نغادرها. لكن مغادرتنا لها لن يجعل الحياة في حال أفضل؛ على العكس ستكون فرصة لهم كي يجربوا ما لم يتجرأوا على تجربته؛ لأنهم سيكونون في حِلٍّ من المساءلة والمشاغبة والهجاء الذي لابد منه.
***
بركات في كل أعماله الشعرية والروائية لا يحترم الأغبياء والذين وُلدوا في وعيهم وإدراكهم على المباشرة لا الفطْرة. لا مشكلة مع الفطْرة. الكاتب الحقّ ذلك الذي يذهب إلى فطرته مضيفاً إليها؛ بعيداً من النص. الفطرة لا نص لها. لا تؤمن بالنص ولا تعترف به. النص الذي يحدِّد لها خريطة كيف تتعامل وكيف تهادن وكيف تنسجم وكيف تتواءم. الفطرة خارج ذلك كله؛ لأنها نصُّ وقتها؛ وقدرتها على الإفحام والإدهاش من دون إعداد أو ترتيب أو ختَل. إنها الحاسّة الملائمة لهذا العالم وبشره. من دون ذلك لن تكون فطْرة. ستكون أي شيء وتحت أي بند أو عنوان؛ لكن طبعاً ستكون خارج الفطرة التي نعرف.
له الحق أن يكون سليم بركات محتقراً للأغبياء في وعيهم وإدراكهم؛ لأن العالم مكتظٌ بالأغبياء أساساً الذين يحتلون الأمكنة في الحياة؛ وسيحتلون مساحات شاسعة من القبور أيضاً؛ كان من الأجدى أن تكون حدائق أو مواقع لمتاحف؛ أو على أقل تقدير، تكون مواقع لفضلاتنا ونفاياتنا!
***
استهداف الغباء والعمل على تحقيره في الأدب العربي اليوم؛ وفي الكتابة عموماً يكاد يكون شحيحاً ونادراً. الغباء المقصود هنا للذين يطلبون منك تفسير معنى الماء حتى وهم على شفا الموت. الذين يطلبون منك تفسير الليل وهم محاصرون به. الذين يطلبون منك تعريفاً للظلم والاستبداد وأحذيتهم تهرّأت لفرط إدمانهم الذهاب إلى العناء والغصّة من دون طائل. أولئك بعض الأغبياء الذين يرون كل شيء على ما يرام ولو تحوّلوا وقوداً لنارٍ لا يغلي تحتها حتى ما يظنون أنها وجبة العشاء؛ فقط ليستبدّ بهم النوم أو الغيبوبة وتتكرّر الخدعة كل ليلة. في الليل يتاح للخديعة أو الخدعة أن تُطبخ وتُعدّ كما يجب. كأنه طقس لممارسة «استغباء» و»استهبال» الخلق. كأن هذه الأنظمة - بل هي كذلك - ليل يحصد الأغبياء من البشر بمزيدٍ من الإيهام، وبمزيدٍ من الخُدع.
***
في «السلالم الرمليَّة» تَرِد مقتطفات من حوار سيكون عصيّاً على شعوب وكائنات من الأغبياء الوقوف على مغزى ودلالات له؛ أغبياء بمعنى تعاطيهم مع الحياة ولغتها بالشكل المباشر نفسه الذي وجدوا فيه أنفسهم من سكّان ورعايا الحياة على هذا الكوكب! «أية كلمات؛ أية خيبة؟»، ساءل بارسيس أخاه. «كلماتي، التي سآخذها معي إلى البيت، منهكة من عذوبة غموضها. هناك سأصف هذه الرسوم». «لماذا تهرب من كلماتك المنهارة، لا من سهمي؟».
***
ثم إن الأغبياء ليس شاغلهم الشاغل القراءة أساساً. لو كانوا يقرأون لما التصقت بهم تلك الصفة. القراءة التي لا تُحدث تغييراً ولو بحجم أنملة؛ إما أن يكون كاتبها غبياً وإما أن الذين يستقبلونها كذلك. أغبياء أيضاً وللمرة المليون بمعنى الاستعداد والقدرة على تغيير الثابت فيما يُظن أنه الفطنة ولا شيء قبله وبعده كي يتغيّر!
جانب من مشكلة النص والحبر العربي اليوم؛ أنه يُسفح في العدم والهباء. يُهدر الحرف والحبر كما يهدر الدم في كثيرٍ من الأوطان بالسهولة نفسها والاستمراء نفسه.
بالمعاينة والتجربة تحرص الأنظمة التي تقتلها وتكتم أنفاسها الشعوب اللمّاحة الذكية الحرّة المنتبهة لحقوقها، على استقطاب كتّاب ينتجون الغباء والسذاجة والهبل والغيبوبة. أولئك في بحبوحة من غبائهم واستغبائهم في الوقت نفسه. لكن من قال إن في الاستغباء نعمة أصلاً؟ تلك النتيجة هي التي تدفع رائياً وروائياً ولغوياً في الوقت نفسه عملاقاً مثل سليم بركات لاحتقار وعدم احترام الأغبياء.
جعفر الجمري
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4016 - الخميس 05 سبتمبر 2013م الموافق 29 شوال 1434هـ