الإصحاح الضريبي و"شطارة" المتهربين منه
تتسم الدعوة الدولية إلى الإصحاح الضريبي بالمزيد من الأهمية لما للتصحيح في هذا الشأن من إمكانية في وضع حد للفساد المالي والثراء غير المشروع، إضافة إلى أرجحيته في إرساء عدالة اقتصادية تقطع الطريق على الاحتكار والتلاعب بالمقدرات التنموية، وتستوقفني هنا ثلاثة أحداث شهدتها الأيام القليلة الماضية: أولها ما تصدر اجتماع زعماء الدول الثماني الأخير من عنوان بشأن الموضوع وتكليف عدد من الخبراء الذين يمثلون هذه الدول بوضع سياقات ملزمة للحد من التهرب الضريبي، أما الحدث الثاني فيكمن بالتسويات التي اعتمدتها الحكومة المصرية الحالية لمعالجة أوضاع المتهربين من الضرائب بدفع مستحقات ما عليهم من الضرائب لإيقاف الملاحقات القضائية ضدهم، وهو الإجراء الذي ضَخَ للخزينة المصرية عشرات الملايين من الدولارات بعد أن ظل العدد الكبير من هؤلاء الأشخاص هاربين على المستويين الشخصي والمالي، ومنهم من كان في أوروبا بعد أن تسرب هناك بأمواله، والحال أن بعض الخبراء وجدوا في هذا الإجراء حلًّا وسطًا وليس حلًّا جذريًّا إذا أخذنا بالحساب الذين يقول إن الأموال المهربة كان يمكن أن تكون رافدًا للخزينة المصرية لو أنه تم استحصالها بالمواعيد المستحقة، ويبقى الحدث الثالث الخاص باللاعب الدولي (ميسي) الذي تناقلت وكالات الأنباء احتمال تعرضه للسجن أربع سنوات بتهمة التهرب الضريبي.
وأياَ كان وقع هذه الأحداث الثلاثة فهي في حقيقة الأمر تشغل حيزًا من واقع الرسوم المترتبة على نمو الثروات بالقناتين الشرعية وغير الشرعية، ونقول غير الشرعية لأن أحد أوجه غسيل الأموال قد تأسس من محتوى عمليات متوالية وبشطارة لصوصية جعلتها تفلت من المقاضاة والمحاسبة على وفق أنها أموال محرمة، وكذلك أنها تضخمت لأنها لم تخضع للمحاسبة الضريبية.
ويحضرني هنا أن أُشير إلى أنه مثلما عانى العالم من هيمنة الشركات متعددة الجنسية أو ما يسمى أيضًا بالشركات العابرة للقارات، فقد ابتلي أيضًا بظاهرة التهرب الضريبي الذي يجيد المتورطون به التسلل بأموالهم إلى البلدان أو البيوت المالية تحت جنح السكوت عليه وليس تحت جنح الظلام، وقد أصاب الداء الأوضاع المالية الدولية وامتد تأثيره السيئ أيضًا على الأوضاع الاقتصادية للعديد من الدول، ومع أنه لا توجد حتى الآن خريطة واضحة المعالم لقنوات التهرب الضريبي وفي أي البلدان يكثر، فإن الدول الصناعية الكبرى تشهد صنوفًا واسعة منه بغطاء بعض البنوك مع ملاحظة أن انكشاف جزء منه كان وراء إفلاس هذه البنوك؛ لأن الكتل المالية التي تتداول فيها ليست متأتية بصورة شرعية، فضلًا عن أن بنوكًا من هذا النوع تميل في أكثر الأحيان إلى الدخول في مضاربات ائتمانية غير محسوبة، الوضع الذي أدى إلى خسائر جسيمة تمثلت بعدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات.
لقد شخص المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة مخاطر التهرب الضريبي بالمزيد من الدقة، وتبنى الدعوات المتكررة للحد منه، فقد أكدت الدراسات بأن هذه الظاهرة تقف وراء ضعف الأداء الاقتصادي في البلدان النامية بالدرجة الأولى وتمثل سببًا ضاغطًا إلى جانب هجرة العقول العلمية منها، أما كيف لنا في الوطن العربي أن نحد من هذا الوباء المالي فالإجراءات المطلوبة لا يمكن أن تختلف عما هو معمول به في البلدان الأخرى مع هامش واضح أن كل الهاربين العرب بأموالهم لا شك أنهم يخونون القيم الوطنية؛ لأنهم يحطون من قدرات عملات بلدانهم إذا أخذنا بالتحويلات غير المشروعة إلى عملات أخرى من السلة الدولية المعروفة التي تضم الدولار واليورو الأوروبي والجنيه الاسترليني.
ويمثل التهرب الضريبي أيضًا انتقاصًا من الفرص المالية الاستثمارية التنموية لأنه يمنع تراكم القيمة المالية الحقيقية، ولذلك نستطيع أن نضيف أن ضعف سعر بعض العملات وارتفاع نسبة البطالة والتفاوت الطبقي الحاد، وانحسار النشاط التنموي الإنتاجي العام، يعود بصورة من الصور إلى انتشار ظاهرة التهرب الضريبي. وبالإجمال فإن الإصحاح الضريبي يمثل أحد أوجه التنمية المستدامة، وتلك مسؤولية لا تقل شأنًا عن المسؤوليات الاقتصادية الأخرى، الأمر الذي لا بد منه دائمًا لتكوين قناعات وطنية بشأنه.
إن وجود التزام دولي صارم بالحد من التهرب الضريبي لا بد أن يمثل شراكة حقيقية في تأسيس مفاتيح للتوازن الاقتصادي القائم على العدل وتكافؤ الفرص، لكن الأهمية الأكبر تكمن في التطبيق ونبذ المعايير الانتقائية.
عادل سعد كاتب عراقي
adelsaad62@yahoo.com أعلى