مصر أمام تجربة الضمير
ليس هنالك ما يشبه مصر سوى مصر .. إنها مفتونة بنضجها يوم يحركها الندم أو تثور على الثورة. الحالة التي ترضاها ابنة التاريخ، يرضاها شعبها، المؤمن الواعي، مهما تحفز في الاقتراب من سلامه المشوب بالتوتر.
ما ترضاه اليوم مصر، أن أبناءها قرروا مضاعفة القسم الذي بدأوه في الثالث والعشرين من يوليو 1952 .. يوم أطلت عليهم الزعامة التاريخية كي تنسج من وحدة الشعب سلامها الأول والأخير، وأن تتعاقد مع الأمل كي يظل سلامها، وأن تتحابب حتى الثمالة، ذلك كان يرضيها، ويظل رضاها.
من الصعب رؤية المصريين وهم قد عقدوا أحلافا متخاصمة تقوم على الدم، ليس في تاريخها ما كان هواه دمويا وما كانت عينها لتدمع على قتيل حتى لو سمي شهيدا. لا شك أن حرارة إيمانها من يحمي أولادها المبعثرين اليوم في شوارعها، منهم من يريد الإنقاذ، ومنهم من يريده أيضا، ومنهم من يهوى العبث، وفيهم من يهواه. لعبة الحرام والحلال يراد لها أن تبتعد كي يطل جو ليس فيه سوى مطر الدم وبقعه. لو كانوا يتدثرون بذاك الحرام والحلال لقالوا ما يجب فعله كي لا يترنح مقتول ويهوي آخر وتصعد روح ثالث إلى باريها وهكذا ..
لا نريد من مصر سوى أن تعبر المرحلة بأقل الخسائر وأن تقدم الدليل على أنها تحلم بديمقراطية، أولها كلام، وآخرها سلام فكلام. يرضي الجميع ويرضيها أن تتمثل هكذا في حراك ضخم كالذي أعد له ليكون لونها للغد، ففي هذا اليوم تجري مراسيم بكره وما بعده، وتعقد الآمال على ما هو أكبر من الهتافات، على الأفعال، وعلى روح النظام الذي تتطلبه عقول متفتحة وقادرة.
لا نريد دماء ولا قتلى ولا جرحى، هنالك ما يثري التعبير بأقل الكلام المنحوت من عذاب الجميع، سواء اصطفوا إلى هذا أو إلى ذاك، أو عاشوا في كنف، عاش الآخرون في كنف مقابل. صورة المصريين المعقدة اليوم، تحتاج إلى براءة طفولية، فالأطفال ديكتاتوريون لكن قلوبهم الطيبة لا تعرف الغل ولا الغش ولا اللؤم ولا استباحة الآخر.
هل يقرر هذا اليوم ما معناه صورة جديدة لواقع جديد ..؟
وهل يرضى المصريون من كافة الأضداد أن يصل بهم الاختلاف إلى خلاف غير مضمون النتائج ..!
إن هذه الـ"هل" تظل أسئلة إلى أن يظهر جوابها في الميدان أو الميادين المتكاثرة في ربوع الكنانة التي علمتنا السياسة والكياسة، كما علمتنا الصبر في لحظة الشدة، بل كانت مصر "أم الصابرين" التي غنى الجميع صبرها الذي بلغ مبلغه، لكنها إذ أفاقت، فهيهات أن تنام أو تعود إلى مربع الصابرين، لقد استفاقت، سعيها أن تصل إلى أهدافها دفعة واحدة وفي أقل من رمشة عين، لكن تكدس الزمن المعذِب قائم في جلدها لا يمكنها خلعه إلا بهدوء ووقت.
لهذا اليوم المكثف يقف المصريون على أمله، ونقف نحن مشدودي الأعصاب على مشاهد نرجو أن لا تقع، لأن وقوعها قد يطيح، ليس بصورة السماح، بل بوطن بدل أن يتعافى، يتعقد أو تأكله الجروح من كل صوب، فينسل من بين أيدي أبنائه إلى ضعف واضمحلال.
ليحمي الله مصر في تجربة الضمير.
زهير ماجد