تحديات طلب العلم وبناء العلماء
قبسات من فكر المرجع الشيرازي
محمد علي جواد تقي
شبكة النبأ: ما تزال الأوساط العلمية والمراكز الأكاديمية في العالم تبحث في كيفية تجاوز العقبات أمام طلب العلم والمعرفة، ولماذا لا يرتقي الكثير المراقي العليا للعلم رغم الجدّ والاجتهاد وبذل الجهد النفسي والعضلي والإمكانات المادية السخية..؟ في عالمنا الاسلامي هنالك مراكز علوم دينية ضخمة، وأخرى علوم أكاديمية، تخرج سنوياً آلاف الطلبة في شتى الفروع والاختصاصات، لكن عندما نأتي الى الواقع نجد أن التخلف العلمي والثقافي والجهل، ما يزال سيد الموقف.
وهذا يلزمنا، بل كل حريص على مسيرة العلم، البحث عن السبل الكفيلة المؤدية الى نهاية ناجحة لطلب العلم، بحيث يتخرج الطالب، بصفة "إنسان عالم" بما تعنيه الكلمة من "عالم". لا أن يحمل صفة العلم بالشهادة الأكاديمية أو بالزي الديني أو بأي علامة فارقة أخرى.
وخلال مطالعتنا لمؤلفات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- وجدنا في كتابه "العلم النافع" ما يضيئ لنا محطات من هذا الطريق الطويل. وسماحة المؤلف عندما يتحدث عن طلب العلم، فهو يسكب من تجاربه الغنية الى كل ظمآن في مسيرة العلم والمعرفة، فقد عاصر سماحته العديد من علماء الدين منذ بداية مشواره في طلب العلم، وخبر الجادين والمجتهدين منهم، والذين بلغوا مراقي المرجعية الدينية والمراتب العلمية من خلال اجتيازهم وتحديهم العقبات الكأداء والظواهر السلبية الموجودة، ويستشهد سماحته بالقول المأثور: أن "لكل شيء آفة وللعلم آفات". لذا يشير جملة من النقاط الضرورية التي تحول دون ظهور تلكم الآفات:
أولاً: استثمار الوقت
ففي الوقت الحاضر هنالك ظاهرة مرسومة في معظم الحوزات العلمية والجامعات، وهي كثرة العطل، لسبب أو لآخر، فهنالك المناسبات الدينية بالنسبة للحوزة، والمناسبات الوطنية للجامعات والمعاهد والمدارس، وربما يكون التلاقي والاشتراك في العطل في بلاد مثل العراق وايران، بحيث يزيد من عدد أيام العطل بشكل ملحوظ وغير طبيعي. ينقل سماحة المرجع الشيرازي عن أحد علماء الدين أنه أحصى الأيام التي درّس فيها خلال إحدى السنوات فوجدها لا تزيد على التسعين يوماً فقط..! وهذا بالقطع واليقين يترك أثره على مسيرة طلب العلم والإفادة منه.
ويضيف سماحة المرجع الشيرازي من تجاربه في هذا المجال بالقول: "إن مجموع أيام العطل لدينا خلال السنة، لم تتجاوز الشهرين.. فالدروس كانت تعطل أيام الخميس والجمعة، والحالات الأربع من كل عام، وهي شهر رمضان، وثلاثة عشر يوماً الأولى من شهر محرّم، و وفيّات ومواليد المعصومين عليهم الصلاة والسلام، والأعياد الثلاثة: الغدير والفطر والأضحى، ولم تكن عندنا عطلة صيفية ولا عطلة أخرى غيرها.." ويضيف سماحته: باننا "كنا نستغلّ حتى أيّام العطل في تلقّي دروسٍ خارج المنهج الحوزوي المقرّر، مثل دروس الأخلاق والتفسير والعقائد والرياضيات والخطابة والكتابة، ولم تكن حتى ليالي الجمع وأيّامها مستثناة من ذلك".
ثانياً: الإرادة
بما إن طلب العلم ليس أمراً سهلاً ويسيراً، ويتطلب بذل المزيد من الجهد الذهني، والاستعداد النفسي والروحي، وأن يوطن الانسان نفسه على كل المصاعب والمشاق والمنغّصات، فان وجود الإرادة الصلبة والحديدية يكون أمراً أساس في هذه المسيرة، وإلا يكون عاجزاً عن دراسة مادة علمية، أو استيعاب كتاب ما.
وهنا التفاتة نستلهمها من كتاب سماحة السيد المرجع – دام ظله- وهي إن طالب العلم، أو حتى العالم في المرتبة العليا، لا يختلف عن الإنسان العادي في مواصفاته البدنية وحاجاته الغريزية، ومشاعره وأحاسيسه. فهنالك الرغبة واللذة والحب والمعاناة، لكن الفارق والمائز في من يتحدى كلك ذلك بإرادة صلبة لا تلين، من اجل تحقيق طموحه العلمي والثقافي وصولاً على الغاية القصوى وهي خدمة الدين والإنسانية، بعلمه وفكره وثقافته.. وهنالك الكثير من القصص عن علماء الدين من المعاصرين والقدماء، ممن خاضوا تجارب قاسية في حياتهم، ثم خرجوا بموقف الأبطال برؤوس مرفوعة ونفوس أبية وكريمة، ثم تحولت إنجازاتهم العلمية من مؤلفات وتصنيفات، وحوزات ومدارس ومكتبات مشيدة، على إرث علمي وحضاري عظيم تحتفي به الاجيال.
من هؤلاء الذي يذكرهم سماحة المؤلف في كتابه؛ الشيخ علي القمي، وهو من كبار علماء الدين، وفي سني شبابه وعندما أراد الزواج، أصرّ على ارتداء ثوب بقماش فاخر، حتى أنه أجّل العرس لحين الحصول على النوع الفاخر من ذلك القماش الذي جيئ به من الشام، لكن نفس هذا الشيخ الذي كان يفضل الكماليات على أي شيء آخر، تحول فيما بعد الى أحد كبار علماء الدين في النجف الأشرف، حتى "صار مضرب المثل في الزهد والتقوى في عامّة العراق وإيران رغم وجود العشرات بل المئات من الزهّاد والمتّقين في ذلك الزمان". وينقل سماحته عن والده الراحل، أنه بالرغم من وجود العديد من مراجع الدين في النجف الأشرف ممن يأمون الجماعة، وهم المتقين والزهّاد، إلا أن كثيراً من الناس والعلماء لم يكونوا يطمئنّون إلاّ بالصلاة خلف الشيخ علي القمّي، لأنّه كان مسلّم العدالة عند الجميع.
وإذن؛ فمن لديه القدرة على تطويع نفسه وما ترغب اليه وتحبه، تكون لديه القدرة أيضاً على التأثير على الآخرين وتغييرهم الى الوجهة الحسنة التي يرتضونها، بل الواضح والمجرّب على صعيد الواقع، أن الناس دائماً يرغبون في العالم الذي يملك قوة الشخصية وقوة الإرادة، فيمحضونه ثقتهم ويلتفون حوله ويستمدون منه قوة الإرادة والعزيمة للتغيير والخروج من الواقع الفاسد.
ثالثاً: العلاقة مع الله تعالى
إذا كان العلم نورٌ، فانه لن يأتي من فراغ، إنما من مصدر النور والعلم اللامتناهي، وهي البارئ عزّوجل، حيث تقول الآية الكريمة: "وفوق كل ذي علم عليم".. من هنا يدعونا سماحة المرجع الشيرازي لأن نعزز العلاقة الروحية مع الله تعالى، بأن "نُدخل في عباداتنا روح التوجّه والصدق شيئاً فشيئاً، وذلك بأن نلتفت إلى معاني العبادة، فمثلاً: إذا وقفتَ بين يدي الله في الصلاة، وشرعت بقراءة سورة الفاتحة، فكّر في معاني مفردات السورة واستحضر مفاهيمها، ولا تدَع فكرك يذهب هنا وهناك، ولو حصل ذلك عُد به سريعاً ولا تدَعه يسرح، ولا تيأس لو خاتلك ذهنك مرّة أو مرّتين بل حتّى خمسين مرّة، واحرص على أن ترجعه الى حضيرته حتى يصبح حضور الذهن مَلَكة عندك، لتعي ما تقرأ وتتدبّر في المعاني، فإذا قلت: "إيّاكَ نَعبُدُ"، استحضرت في ذهنك أنّ العبادة لله تعالى وحده وأنّك في حال أدائها، وإذا قلت: "وَإيّاكَ نَستَعين" جدّدت استعانتك به في كلّ أمورك وخاصّة في عبادته".
ويضيف سماحته محملاً الناطقين بالعربية هذه المسؤولية أكثر من غيرهم: "ولا شكّ أنّ الإنسان العربي يفهم معاني هذه المفردات أفضل من غيره، لأنّها من لغته، وعنده انطباع عنها، فكيف إذا كان من طلاّب العلوم الدينية وقد قرأ كتب النحو والصرف والبلاغة"! ويؤكد سماحته في هذا السياق بانه "بمقدار قوة الرابطة بين الإنسان وبين الله تعالى يأتي التوفيق بنفس النسبة".
رابعاً: العلاقة مع المجتمع
بعد العلاقة مع السماء، لابد من العلاقة مع الأرض، حيث الميدان العملي لطالب العلم، وأهم خطوة في هذا الطريق كما يوصينا سماحة المرجع؛ هي الاخلاق الرفيعة والصفات الحميدة مثل التواضع والعفو والعطاء وصلة الرحم وغيرها. هذه الصفات ربما نجدها في عديد أفراد المجتمع، لكن المطلوب من طالب العلم والعلماء تعميقها وتكريسها في النفوس، وأكثر من هذا تطبيق هذه الصفات على صعيد الواقع ليرى الناس الصورة الجميلة للأخلاق الحسنة على شكل إنسان تتحرك على الأرض، لذا يوصينا سماحة السيد المرجع بأن نخالف الهوى في كلأ الأمور.. ويقول: "إن كنت لا ترغب في أمر ما رغم اعتقادك بصوابه، حاوِل أن تخضع له بكلّ رحابة صدر. وإن كنت مختلفاً مع صديقك و واجداً عليه، حاول أن تصله بزيارة أو بإلقاء التحيّة عليه كلّما لقيته. ولا تبتئس إن لم يقابلك بالمثل ما دمت قد أدّيت ما عليك. فإن كنت تريد أن تصبح عالِماً ومرشداً ينبغي أن تكون قدوة في الخُلق من حلم وكظم غيظ وما شابه، لا أن تثور بسرعة أو تتوتّر أعصابك لأتفه الأسباب".
والحقيقة؛ فان مفهوم الأخلاق، مايزال غير واضح المعالم في الأوساط العلمية بشكل عام، لاسيما في الأوساط الأكاديمية، إذ تسود حالة الجدّية والحدّية في آن.. وربما تكون البشاشة والانبساط والمساعدة وغيرها من مظاهر الاخلاق الحسنة، مدعاة لضياع الفرص العلمية، والانشغال بالأمور التي يتصورها البعض بنوع من "المجاملة"! بينما أثبتت التجارب أن العلماء الناجحين أولئك الذين تحلّوا بقدر كبير من الخلق الرفيع خلال تعاملهم مع الناس، واصبحوا مثالاً يحتذى به، بل وتكون علومه الدينية وكذلك في الطب والهندسة والاقتصاد وغيرها، مما ينفع الناس لا يلحق بهم الضرر ويزيدهم معاناة على ما هم عليه.
خامساً: الاهتمام بالكيف لا بالكمّ
يتصور البعض أنه بتلقيه دروس عديدة ومطالعته كتباً كثيرة، يكون قد اكتسب العلم والمعرفة، إلا ان هذه الكثرة ليست دائماً تأتي بنتائجها المرجوة، إذ يتعين على طالب العلم الالتفات الى معادلة "الكم والكيف"، فالكيفية تأتي في كثير من الاحيان افضل وأولى من الكمية، وهذا ما يدعونا اليه سماحة المرجع – دام ظله- وهذا لا يعني أن يتلقى الطالب دروسه ويتابع مناهجه العلمية، أو أن يقتصر على درس او درسين، أو يحصر دراسته على يومين أو ثلاث في الاسبوع، إنما "يوزّع الوقت بصورة مناسبة بين تحصيله العلمي وقضاء باقي احتياجاته، وليعلم أنّ الأمر المهمّ هو الكيف وليس الكمّ، وأعني بالكيف: الإتقان".
وإذا لاحظنا المستوى العلمي سواءً في الحوزات أو في الجامعات، نرى أن المشاكل الموجودة تعود بالدرجة الأولى الى اسباب داخلية، قبل أن تكون لها علاقة بالنظام السياسي الحاكم أو الظروف الموضوعية على الأرض، إنما السبب في الإنسان نفسه؛ اذا اراد فعلاً طيّ مراحل طلب العلم بالجد والاجتهاد فانه يرتقى بلا شك مراقي التطور والتقدم، ثم يقدم لشعبه وأمته أكبر المنجزات والخدمات. وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- في إشارته الى الظروف القاسية التي كانت سائدة في العقود الماضية، وربما قبل قرن من الزمان، حيث كان طالب العلم يتحسّر على نسخة الكتاب ليدرسه، وايضاً المدرّس الذي يدرسه المادة، بينما نرى اليوم كل شيء متوفر ومتاح للجميع، حيث النسخ المطبوعة بأشكال فنية وجذابة، كما يتوفر عدد لا بأس به من الاساتذة من علماء الدين. وكذلك الحال يصدق على الجامعات والمراكز الأكاديمية، حيث دخلت مختلف أنواع التقنيات التي تسهل أمر التعليم والبحث والدراسة، الامر الذي يدعو الطالب أن يشمّر عن همته ويعقد العزم على مواصلة الطريق، غير آبه بما يحيط به من مشاكل وأزمات، وبذلك جديراً بالتأثير والتغيير، بل يكون حقاً رجل المرحلة، ورجل المستقبل.
شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/آيار/2013 - 19/رجب/1434