ظلم الإنسان لربه
تقدّم الكلام عن الظلم والعدل باعتبارهما العنوانين اللذين يمثّلان توازن البشرية أو اختلالها، ففي الظلم يختلّ واقع البشرية في علاقتها بنفسها وعلاقتها بالله وعلاقتها ببعضها البعض وعلاقتها بالحياة كلها، بينما في العدل يتحقَّق التوازن ويحصل الازدهار والنمو والتطور. ومن العناوين الأولى لمسألة الظلم، هو ظلم الإنسان لربّه وظلمه لنفسه، أما ظلم الإنسان لربّه، فهو أن لا يعطي لربِّه حقه، لأن لله على عباده حقوقاً؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يوحّدوه ولا يجعلوا له شريكاً، وأن يطيعوه ولا يعصوه، وأن لا يطيعوا غيره بمعصيته. هذه الأمور الثلاثة هي التي تمثّل عدل الإنسان مع ربّه، لأن العدل، كما ذكرنا، هو أن تعطي الذي تعدل معه حقّه، والظلم هو أن لا تعطيه هذا الحق، والظلم مع الله هو أن تشرك به في العقيدة، بأن تجعل له شريكاً في العبادة والطاعة.
وقد أطلق القرآن الكريم كلمة الظلم على الشرك، وذلك كما جاء في وصية لقمان لولده: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم} [لقمان:13]، وقد يقول قائل إن الظلم عادةً يكون من القوي على الضعيف، فكيف ينطلق الظلم من الضعيف إلى القوي، وكيف يقال إن الإنسان يظلم ربه؟ والجواب عن هذه المسألة يمكن أن يحدَّد بكلمة للإمام علي(ع) في نهج البلاغة في صفة الظالم، يقول(ع): "للظالم من الرجال ـ أي من الناس ـ ثلاث علامات؛ يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة"، أي يؤيّدهم ويدعمهم. إذاً ظلم الإنسان لربه لا يعني أن يقهره، لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بالله، ولله القوة جميعاً، وللإنسان الضعف جميعاً، لأنه خلق ضعيفاً: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز} [فاطر:15-17]. فالظلم لله ليس ظلم القوّة وظلم الغلبة وظلم القهر، بل هو ظلم المعصية، بأن لا يعطي ربه حقه الذي عنده، يعني أن يعصيه في وحدانيته في كل عناوين الوحدانية.
وهذا الظلم أيضاً يصدق على الإنسان عندما يظلم أباه، وقد يكون الأب أقوى منه، فيظلمه بأن يتمرَّد على أبوّته، وكذلك قد يظلم الدولة التي هي أقوى منه، بأن يتمرد على قوانينها.
ظلم الاستبداد
أما النوع الثاني من حركة الظالم في ظلمه، فهو ظلم الغلبة، أي ظلم القوي للضعيف، يعني بظلم القهر وظلم الاستبداد وظلم التغلب، وهذا الذي يفعله الأقوياء بالضعفاء، والذي يكون مظهره بروز قوة الظالم على المظلوم، لكننا نقرأ في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في ليلتي عرفة والجمعة، يقول(ع) كما روي عنه: "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ـ إنك لا تظلم يا ربي عبادك ـ ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت ـ عندما يسيء إليك أحد لا تستعجل في الانتقام منه ـ وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف" يعني أن الظالم عندما يظلم، فإنما ينطلق في ظلمه من خوفه ومن قوّته، ولذلك يبادر إلى قهره مستغلاً الفرصة، حتى يستكفي من قوتّه في المستقبل أو في هذه الحالة من جانب آخر. ولذا يُقال إنّ الأفعى عندما تهاجم الإنسان، فإنها لا تهجم من موقع قوّتها، بل لأنها تخاف منه فتهجم عليه، أي أنها تقوم بهجوم وقائي.
وهذه نظرية نفسية اجتماعية. وقيمة أدعية أهل البيت(ع)، وأدعية القرآن وأدعية النبي(ص)، أنها تشتمل على دروس ثقافية متنوعة، ونحن لا ندعو بها للبكاء فقط، إنما ندعو بها لنعرف الله، ونعرف علاقاتنا مع بعضنا بعضاً، لنفهم طبيعة الواقع الذي نعيش فيه. ولذا نحن نقول إنه يجب أن تُدرس ثقافة الأدعية في الجامعات، لأن فيها ثروةً روحيةً نفسية اجتماعية قيمية فلسفية، وهذه عظمة أهل البيت(ع)، ولذا نحن ندرسهم في كلماتهم وفي أدعيتهم.
ولذلك أيها الأحبة، من الأمور التي أتحدث بها دائماً وكتبت فيها، أنّه ليس كل دعاء يأتينا ندعو به، لأن الدعاء فيه مفاهيم يجب أن توثّق، كالكثير من الأحاديث التي تشتمل على جانب فقهي، فكما في الحديث ندرس حال الراوي إذا كان موثقاً أو لا، كذلك ينبغي أن نفعل في الدعاء، لأن هناك أناساً يكتبون أدعية ويكتبون زيارات أيضاً، الآن يوجد الكثير من الزيارات التي ليس لها سند، أو أنّ سندها غير موثوق، ويمكن أن تكون من وضع بعض الرواة الغير موثوقين بينما نبني نحن على أنها موثوقة. الآن عندما تذهبون إلى مرقد السيدة زينب(ع) وتقرأون الزيارة الموضوعة على المدخل والزيارة الموجودة في الداخل، هذه الزيارة لم تروَ عن إمام وإنما كتبها شخص من العلماء واتّبعها الناس وصاروا يزورون بها. ونحن نتحفّظ في هذه الأمور، لأن فيها مفاهيم، وهذه المفاهيم ستدخل إلى عقولنا وثقافتنا، ولا يستحسن أن ندخل في ثقافتنا أيّ عمل يعمله إنسان.
وهذا ما جعلنا نتكلم عن الذين يقرأون العزاء، سواء كانوا من الرجال أو من النساء الذين يستعرضون الخرافات في مجالسهم والأكاذيب والأمور غير الموثقة، فأصبح الناس يأخذون عقائدهم من قرّاء وقارئات العزاء، ويقولون هذه عقائدنا، وهي ليست من عقائدنا، مثلاً إنّ بعض قرّاء العزاء يقولون إنّ الله أرسل أربعة آلاف من الملائكة لنصرة الإمام الحسين، ولكن طرأ عليهم حادث في الطريق ولم يكن معهم خريطة فوصلوا بعد مقتل الإمام الحسين(ع)، الله أرسلهم ولكنه لم يعطهم الخريطة، أو كان هناك أزمة سير. هذه تُحكى للناس على شاشات التلفزيون ويقرأها الناس. لذلك كل شيء يُنسب لأهل البيت(ع) من دعاء أو زيارة علينا أن نوثّقه، لأن هناك الكثير من الأمور التي سار الناس عليها، وبناؤهم أنها حقيقة وهي ليست حقيقة.
ظلـم الحـق
فإذاً نعود إلى قول الإمام(ع): "أن للظالم من الرجال ثلاث علامات، يظلم من فوقه بالمعصية ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة"، أي يدعم الظالمين، لأن الإنسان الذي عنده حالة الظلم، يألف الظالمين، ولذلك يدعمهم ويؤيدهم.
فظلم الإنسان لربه ينطلق من عدم إعطائه الحق الذي له عليه، في أن يوحده في العقيدة وفي العبادة، ويوحّده في الطاعة وفي الحب، بأن لا يحب أحداً كما يحب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله} [البقرة:165]، أي لا يحبون أحداً في درجة الحب لله، حتى الأنبياء، نحن نحب الأنبياء لأن الله أحبهم وأحبوا الله، والأئمة كذلك.
وهذا ما حصل مع النبي(ص) في واقعة خيبر، عندما أرسل شخصاً إلى القلعة، فرجع يجبِّن أصحابه ويُجبِّنونه، فأرسل شخصاً آخر، ورجع أيضاً يجبّن أصحابه ويجبّنونه، فقال لهم(ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فالوسام قد استحقه الإمام علي(ع)، لأنه يحب الله ويحب رسوله، طبعاً من خلال حبه لله، والمحبة هنا ليست خفقة قلب، بل هي اتّباع من يحبه الله ورسوله، ولذا قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31]، لذلك نحن لا نحب النبي ولا الأئمة بدرجة حبّنا لله تعالى.
لذلك نحن نقول في التشهد: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وعظمة الرسول(ص) أنه أخلص العبودية لله سبحانه وتعالى. ولذلك فإنّ كل عقيدة تجعل الأنبياء والأئمة قريبين إلى درجة الله بالمكانة يعتبر من الغلوّ، وما يغلب على تفكير البعض من أن الأئمة يرزقون ويُحيون ويميتون، وأنّه ينبغي أن نطلب حاجاتنا منهم وليس من الله تعالى، هو كله شرك وغلوّ. ومسألة أن نوحّد الله في الحب، يعني أننا عندما نحب إنساناً مثلاً لجماله، فإنّ علينا أن نفكر من الذي خلق الجمال؟ وعندما نحب إنساناً لعلمه، نفكر من ألهمه العلم وأعطاه العقل والعينين؟ وعندما نحب إنساناً لقوته، نفكر من الذي أعطاه هذه القوة، وعندما نحب إنساناً لجهة الكمال الجسدي، نفكر من الذي خلق له هذا الجسم وأعطاه هذه الأجهزة التي جعلت منه هذا؟ الله تعالى هو الذي أعطاه كل هذا، فإذا كنا نحب أناساً بما أعطاهم الله، فالذي وهب وأعطى كل هذا ألا يجب أن يُحبَّ أكثر؟ الله هو الذي يعطي الجمال والرزق ووسائل الانتصار، {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل:53]، وحب الله يختلف عن كل محبة، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}، فالرسول(ص) يقول لا تتبعوني لشخصي باعتباري محمداً بن عبد الله، بل باعتباري محمداً رسول الله، {يحببكم الله}.
نحن في بعض الحالات نربي أولادنا، فنقول للولد كم تحبني، فيقول بقدر حب الله، لا ينبغي أن نربي أولادنا عليه، بأن يحبونا كما يحبون الله، {والذين آمنوا أشدّ حباً لله}، فالإنسان الذي يحب الله ويوحده في الحب، هو الإنسان الذي يقف حراً أمام كل الناس. عندما تحب الله أكثر من كل الناس، معناه أنك لست مستعداً أن تؤذي الله حتى يُسر شخص آخر.
وقد يتناسب مع هذا المقام بيتان من الشعر ينسبان للإمام زين العابدين(ع)، ولا أدري إن كانوا له أم لا، ولكنها منسوبة إليه:
تعصي الإلهي وأنت تُظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحبُّ مطيـع
والإمام(ع) في بعض أدعيته يقول: "ولئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهل النار بحبي لك". فعلينا أن نحبّ الله ونوحّده في الحبّ كما نوحّده في الطاعة والعقيدة والعبادة، وبذلك نؤدي إلى الله حقه. فالذي لا يصلّي يظلم الله، والذي لا يصوم أيضاً يظلم الله، والذي لا يحج وهو مستطيع، والذي لا يؤدي الحقوق الشرعية والذي يظلم الناس ويعصي الله بشربه للخمر ويقامر ويزني...، هذا كله ظلم لله، لأنه يعصيه. لهذا يجب أن لا نكون ظَلَمَة لله سبحانه وتعالى عندما نعصيه، وهناك ظلم للنفس، وهذا أمرٌ ندمنه، فنحن نظلم أنفسنا ويُخيَّل إلينا أننا نخدمها، لأننا لا نعرف كيف نعدل مع النفس وكيف نظلمها، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الدرس القادم.
والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..